الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

  • الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

اخرى قبل 12 شهر

الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

بكر أبوبكر

حضرتُ أنا وأحد الأخوة الكرام ندوة سياسية وشاركنا فيها كمتحدثين وهي الندوة التي نظمها أحد مراكز الدراسات المرموقة.

ولما اعتلى القائد السياسي لأحدى الفصائل الفلسطينية منصّة الحديث، طلبت من صديقي أن يراقب أمورًا ثلاثة في كلمة أو مداخلة القائد السياسي وهي:

منهجية الطرح وتسلسل الأفكار

وطرق صلب الموضوع عنوان الندوة

وأن يأتي بشيء جديد ومفيد

فضحك صديقي وقال: أستطيع أن أعطيك الجواب من الآن!

فقلت له: دعنا نرى ولا نحكم مسبقًا.

كان القائد السياسي خالي الوفاض! فهو لم يستطع أن يخرج عن محيط فوضاه الداخلية وتبعثر أفكاره وافتقاده لأدوات الفكر والعرض، فتاهَ بين جبال الكلمات بحيث لم يجد منها الا لوازم مكرّرة لا تغني ولا تسمن من جوع، والى ذلك كانت جبال الكلمات والأفكار تنظر إليه بعجب فها نحن نحيط بك فلماذا لا تستخدمنا؟

اضطررت أن أتدخل وصديقي في محاولة لدعم الرأي الوحدوي العام (وإن تم طرحه من قبل القائد السياسي بفوضوية وبلا منهج) وحاولنا أن نضفي على كلامه إطارًا فكريًا ورؤية!؟ شفقة على الرجل من جهة، ورغبة بألا ينفضّ الجمهور عن الفكرة الوحدوية الجامعة لمجرد أنها عُرضت بشكل بائس ومملّ ومكرر.

في ندوة مركز الدراسات المذكور كان جلّ الحضور لحُسن الحظ -وهذا شيء حسن- من الطلبة أخوات وأخوة ولذلك فهم لم يتركوا الكلمات المبعثرة والأفكار التائهة للقائد السياسي أن تمر مرّ الكرام-وإن كانت مداخلتنا قد خففت الكثير من الحنق عليه كما همس بأذننا أكثر من أخ بعد نهاية الندوة- بل مارسوا ما يبرعون به من نقد للأداء عامة سواء لكلمة القائد السياسي ذاته، أو للفصائل الوطنية عامة (وتشمل الفصائل الوطنية مَن تُسمي نفسها الاسلاموية تمييزًا وبغرض إضفاء شيء من التبجيل والقداسة عليها لدى الجمهور المتلقي)

في لقاء له في مكتبه في يوم لاحق حاولت أن أطرح عليه ضرورات امتلاك ناصية التأثير بالآخرين ليس فقط بقوة الكلمات وإنما بمصداقية الطرح ومنهجيته أي ضمن ضمن النقاط التي تداولتها أنا وصديقي، ومضيفًا عليها الشيء الكثير مما يعد من أصول التأثير بالآخرين لا سيما في ظل وضع سياسي بائس يحتاج لقائد سياسي صادق وماتع وقادر على دخول قلوب الجماهير بعمله وشخصيته ولسانه.

للعلم كان القائد السياسي يستمع لي في مكتبه وهو تائه! فالعينان زائغتان، ولغة الجسد صفرية، فلا حياة لمن تنادي، حتى إنني لم أظنه كان يسمع أصلًا ولربما ظنّ أنه بموقعه أو كرسيّه يمتلك كل ما يحتاجه من علم!؟ فمن هذا الذي يتحفنا ببعض أفكاره التافهة!

تذكرتُ هذه الحادثة البائسة أو الحادثتين، وأنا أحضر وأشارك بمداخلة في ندوة هامة للأخ نائب رئيس حركة فتح منذ أيام وقد أجاد بالإيجاز واستطاع أن يستثمر الوقت بالحوار أكثر من الإلقاء الثقيل بالساعات الطوال.

وللحق كان مستمعًا جيدًا على عادته، وهذا لعمري من أبرز مزايا القائد المؤثر والموثوق إضافة الى مكونات شخصيته الأخرى التي يختلط فيها المكوّن الذاتي بصنع البيئة والوضع السياسي وقدرته على رفعه لمستوى طموحات الجماهير في أسوأ مراحل الانحدار وهي التي نعيش مثلها اليوم بين افتراق وتغوّل صهيوني وانفراط عقد العرب، وانصراف العالم ترقبًا لمكونات النظام العالمي الجديد الذي سيقضي على القوة الوحيدة المهيمنة على العالم.

دعوني هنا ومن وحي الندوتين المختلفتين أعلاه ولقاء القائد الأول، أقول ما قاله العالم الإسلامي والفقيه ابن المبارك "لا يزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل"-المجالسة وجواهر العلم٢/١٨٦.

وبناء عليه سأطرق في مداخلتي هذه-هذا ما قلته في ندوة ثالثة لاحقة حول: الفكر بين السياسة والتنظيم، وربما هنا بشيء من التوسع- أمورًا خمسة كالتالي:

الأمر الأول: إن الفكرة تجرّ الفعل، ولكنها تحتاج لإرادة تحقيق، فإذا فقدت الإرادة ماتت الفكرة. وعندما نطرح في كل أزماتنا ومشاكلنا النظر في المخارج والحلول يبرز بين أعيننا منطق تحويل الأزمات الى تحديات حيت نتعلم دومًا ونستفيد من عوامل قوتنا.

 وعوامل قوتنا كثيرة لمن عَميَ عن رؤية مساحات قوته في مقابل عوامل ضعف العدو ما يوجب حُسن التحليل وطرح الخيارات ووضعها أمام القيادة السياسية لتختار وفق نظرتها للعوامل الداخلية والخارجية من جهة ووفق الاستطاعة والامكانية والفرصة ما لا يجب معه فهم أن كلامي-كمركز دراسات أو إطار استشاري أو كمفكر او ككادر تنظيمي- يعني أن تستجيب القيادة تلقائيًا لما أقول لأن هذا منطق لا يستقيم إذ يكفي أهمية استماع القيادة السياسية، بحق الاستماع، وإدخال المقترحات مدخل الجديّة من خلال إدراجها في إطار تفكيرها واستراتيجيتها واجتماعاتها التقريرية. وأن اشتكت كثير من مراكز الدراسات أن أوراقها وتحليلاتها ودراساتها لا تصل أصلا الى طاولة القيادة كما كتب الأخ هاني المصري مؤخرًا وهو صادق بذلك.

ثانيًا: في سياق البحث عن الحلول يتم استعارة عبارة (ما العمل؟) المنسوبة لفلاديمير لينين وما هي له كتوضيح، إذ أنه اقتبسها من رواية للكاتب الروسي "تشيرنيشيفسكي" ومع ذلك فإنه بالإطار الوطني أصبحت اللفظة أو المصطلح من أدبيات الأخ أبوعلي مسعود نائب أمين سر المجلس الاستشاري لحركة فتح، وهو المجلس الذي أتشرف بعضويته.

 وللتأصيل التاريخي فإن كُراس لينين الهام عام 1902 جاء استكمالًا لمقال له في مجلة "الايسكرا" أي الشرارة بالعربية قبل عام منه، تحت عنوان "بمَ نبدأ" وفي كتيبه ما العمل؟ تعرض لطرح السؤال والتحليل وطرح الحل بضرورة قيام التنظيم (المنظمة السياسية/الحزبية) ووجود الطليعة وممارسة النضال بمثابرة. وهو يعد اليوم وثيقة تاريخية وليس وصفة شاملة لأي حل.

 والى ذلك فلقد أتم تروتسكي الأفكار باعتقادي بمقالته المعنونة "مهامنا"، ولقد تراءى لي أن مختلف التنظيمات في بداياتها قد طرحت نفس الأسئلة وعلى رأسها ما العمل؟ ونظرت للحل من واقعها القائم ما يعد الآن وثائقًا تاريخية هامة.

 كما فعل ميشيل عفلق حين كتب "نقطة البداية" و"في سبيل البعث" و"في السياسة العربية" وأيضًا حين كتبت "فتح" منذ العام 1957 هيكل البناء الثوري كأول وثائقها مركّزة على العمل وهياكله وأساليبه كأساس لتلحقه بتأصيل فكري ضمن كراسات: لماذا أنا فتح؟ ومهامنا الحركية، ثم قواعد المسلكية الثورية..الخ.

إذن يعدّ سؤال "ما العمل" سؤالا مفصليا في البدايات، وحين تشتد الأزمات -في كل حين- التي يتصدى فيها المفكرون والمثقفون لتزويد الساسة بما يُجلي إرادتهم ويدفعها نحو اتخاذ القرار المناسب.

 وهو بنفس مقدرة الأطر التنظيمية (في حركة فتح حين التفعيل من الخلية حتى لجنة الإقليم، ثم الثوري والاستشاري) حينما تعيش حياتها الحراكية الداخلية بين حوار ونقاش طالع ونازل، وبدأب وتواصل لا يتخلى عن أهمية الاجتماع التنظيمي الدوري، وعن أهمية الحديث والاتصالات صعودا وهبوطًا التي تؤدي لدعم المسار القيادي حتى بالنقد الداخلي -عوضًا عن استخدام وسائل التواصل (التبعثر) الاجتماعي فاشلة التواصل الحقيقي- وهو ذاك الوجاهي بين الكوادر. (يتبع)

 

 

 
 
 
 
             

التعليقات على خبر: الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

حمل التطبيق الأن